هل صحيح أننا لا ننسى حبنا الأول ، وأننا نظل نحمله في جوانحنا طوال العمر، حتى لو أصابه الفشل كما يصيب أغلب حالات الحب الأول؟! وما السر في أن هذا الحب الذي يحدث مع تفتح الوعي للمرة الأولى على الحياة يظل كامنا في النفس كالأصل الذي لا يقبل الفناء؟!
لقد نمت داخلنا أسطورة الحب الأول بوصفها بعض حنين البداية إلى اللحظة المعرفية الأولية التي أكتملنا فيها بمعرفة الآخر، المرأة، فتعرفنا الحياة في صورتها التي كنا نجهلها، ودخلنا أفق الغواية الساحرة التي قادتنا إلى عوالم بهيجة سعدنا بها زمنا، وحتى عندما كان الحب الأول يفشل، نتيجة اصطدام مثاليته بواقع الحياة الخشن، أو نتيجة التفريق بين المحبين لأسباب عديدة، كان هذا الحب يظل باقيا في النفس كالواحة الظليلة التي تلجأ إليها الروح هربا من جحيم الحياة ولظى مشكلاتها.
ولكن هل يمنعنا الحب الأول من أن نحب بعد إنتهائه؟ وهل نظل في شوق إلى محبوبنا الأول بالقياس إلى أي محبوب نقع في غرامه بعد ذلك؟ ولماذا - إذا كانت الإجابة بالإيجاب - يظل المحبوب الأول كالحب الأول هو النموذج الأعلى الذي تتضاءل إلى جانبه كل النماذج اللاحقة في الحب؟
أوليس في هذا ضرب من السذاجة العاطفية أو الرومانسية التي سرعان ما نغادرها حينما نفارق عالم الصبا وندخل عالم النضج؟ وهل للحب الأول وجود حقا أم أنه مجرد وهم نصنعه لأنفسنا في مرحلة الأوهام من حياتنا، حين نستسلم لخيالنا كي نحلق معه إلى سموات من الحب الخيالي الذي نعيش في أوهامه متصورين أنه الحقيقة؟ وقد يكون للحب الأول أصل من الواقع،ولكن ألا يضيف إليه خيال صبانا الكثير الذي ينقله من عالم الواقع إلى عالم الرغبة التي لم تتحقق، والتي تظل قرينة الحلم الذي يشير إلى شئ غائر في النفس.
أجاب الشاعر العباسي أبو تمام عن مثل هذه الأسئلة التي لابد أن بعضها شغله كما شغل غيره على إمتداد العصور،وصاغ إجابته في بيتين يقولان: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وهما بيتان تنبني صياغتهما على تشبيه التمثيل الذي يثبت الدعوى التي يقومان عليها، فالبيت الأول يحمل الدعوى الجازمة التي تقول إن الإنسان مهما تنقل من حب إلى حب، فإن حبه الأول يظل الأصل الأجمل، بل يظل هو الحب بألف لام التعريف أو العهد. وحال الحب الأول في اكتماله بالقياس إلى غيره اللاحق عليه حال المنزل الأول الذي يألفه الفتى في الأرض التي عاش عليها، والذي مهما بعد عنه يظل حنينه الأول إليه بوصفه أول المنازل وأجملها في المخيلة.
ويعتمد أبو تمام في البيتين على العادات العربية التي تتجسد في شعرها، خصوصا الشعر الجاهلي الذي كان أقرب إلى البداية، والذي كان يقترن بتصوير حياة البادية التي كانت تضطر القبيلة إلى الإرتحال عن منازلها طلبا للماء، والتي كان إرتحالها نفسه سببا في الذكرى التي كانت تشد الشعراء إلى المكان المرتحل عنه بوصفه المكان الأول، المكان الذي كان يزداد توهجا في الخيال حين يقترن بالحب الأول، ذلك الحب الذي كانت تجسده القصيدة الجاهلية على مستوى التذكر الذي تبدأ به، التذكر الذي كان يحركه الوقوف على الأطلال، وتذكر الحبيب الأول المقترن بالمنزل الأول في الوقت نفسه.
وربما كانت براءة الحب الأول هي السبب في الهالة السحرية التي تحيط به، خصوصا من منظور الحرمان من الحبيبة، أو عدم الاقتراب منها بالمعنى الذي يبتذل حضورها، فالحبيبة الأولى في سنوات العمر الباكر كالهلال الذي أفرط في العلو، وضؤءه قريب جدا من السائرين في الصحراء، وإفراطه في العلو هو الباعث على تخيل ما ليس بقائم، وتصور ما لا يوجد، كالحب الأول الذي يبعث النفس الغضة على تخيل صفات الكمال والجمال في موضوعها الذي يظل فاتنا في مدى الرؤية، بعيد المنال على مستوى الوصال المادي العملي.
ولذلك تظل ذكراه في النفس مثل الاكتشاف الأول للحضور، أو المعرفة الأولى لمبدأ الرغبة قبل أن تتحول الرغبة نفسها إلى موضوع للتأمل أو التحليل، بل قبل أن تصبح الرغبة نفسها موضوعا قابلا للتحقيق، فتكتسب صفات المألوف المعتاد من أشياء الحياة اليومية. ولذلك يظل الحب الأول وضعا خياليا كالجنة المتوهمة التي ننزل منها بخطيئة ملامسة الواقع الخشن، فنظل نحلم بالعودة إليها، خصوصا كلما أوجعتنا جهامة هذا الواقع، أو نفرنا من شدة ألفته وابتذاله.
لا أظن أن شيئا من ذلك دار بخيال الشاعر العباسي أبي تمام. ولكن بعضه على الأقل كان في وعي الشاعر الحديث أحمد عبد المعطي حجازي عندما ألقى سؤاله: أرأيت إلى ورق غادر شجرة هل يستوطن شجرا آخر؟
أرأيت إلى إمرأة حرة
هل تهوى إلا صاحبها الأول؟
والسؤال نفسه يتضمن جوابه الذي يلتقي مع الدعوى التي صاغها أبو تمام حين جزم بأن القلب يظل دائما ميالا إلى الحب الأول الذي يحن إليه الفتى مهما تنقل بين المنازل اللاحقة. ولكن الحب الأول يتداخل مع معنى الهوية الأصلية عند حجازي، فهو المعنى الذي يكتمل به وجود الهوية في النفس للمرة الأولى، فيغدو راسخا يقاوم عوامل التغير، شأنه في ذلك شأن الشجرة التي تنجذب إليها كل الأوراق مهما تباعدت أغصانها،وشأن الصاحب الأول الذي لايمكن أن تنساه المرأة الحرة التي اكتمل حضورها بهذا الصاحب للمرة الأولى.
الحب الأول الذي يشبه أصل الهوية لايمكن التخلي عنه أو هجره بهذا المفهوم، حتى لو باعدت بيننا وبينه السنون.
هذه الهالة الأسطورية للحب الأول هي ما حاول إحسان عبد القدوس أن ينقضها في روايته «الوسادة الخالية» وهي الرواية التي شدتنا إليها، ونحن نفارق سنوات مراهقتنا، ربما لأنها فتحت أعيننا على الوهم الذي انطوينا عليه، فالبطل في الرواية كان يشبهنا، خصوصا في الفيلم الذي قام ببطولته عبد الحليم حافظ. وكان البطل طالبا أحب في سنوات صباه للمرة الأولى، وتمنى لهذا الحب ما أنشدناه معه وكلنا عواطف شاجية، ولكنه سرعان ما فقد هذا الحب، عندما أجبرت الحبيبة على الانصياع لرغبة أسرتها في الزواج من زوج لا تريده، ومضى الحب في رحلة الألم.
وأكسبه الألم صلابة المقاومة فخاض رحلة الحياة التي تكللت بالنجاح الكامل. ولكنه ظل حاملا الحب الأول في وجدانه، عاجزا عن تركه أو التخلي عنه، مجسدا حضوره الرمزي في وسادة خالية يلجأ إليها وحيدا، بعيدا حتى عن زوجته التي تزوجها، ويظل كذلك إلى أن تتعسر ولادة الزوجة التي كادت تضيع منه، فتدفعه الأزمة إلى الإفاقة من الوهم الطويل الذي ظل يحمله في داخله،
وينتقل من حلم الرغبة المحبطة إلى واقع الرغبة الواعدة بالمستقبل الذي يتمثل في طفل وليد، فيهجر الحب الأول الذي يتبدد كما يتبدد الوهم مع صحوة شمس الواقع، وينسى البطل الحب الأول الذي يبتلعه اللاوعي في الذاكرة التي ابتلعت كل قصص حبنا الأول